سوريا المستقلة أم ولاية «شام شريف» مجدداً؟
في خلال بضعة أسابيع تلت انهيار نظام بشار الأسد وهروبه الفاضح، نجحت تركيا في القيام بعملية احتواء وبناء ركائز هيمنة جيوسياسية وأمنية على الجمهورية العربية السورية بسرعة ملحوظة، وبهدوء وصراحة قد يعتبرها البعض صادمة ولم تراعِ حتى نظرة الجمهور السوري لحلفائها المحليين في المجموعات الجهادية المسلحة بزعامة «أبو محمد الجولاني» (أحمد الشرع).
أطماع قديمة بأقنعة جديدة
صحيحٌ أن تركيا لم تخفِ يوماً أطماعها في أراضي سوريا - ولا في أراضي العراق - وصحيحٌ أنها كانت قد أفلحت بموافقة فرنسا كدولة محتلة لسوريا في أن تقتطع منها المحافظة الخامسة عشرة (الإسكندرونة) سنة 1939 وألحقتها بدولتها وغيّرت اسمها إلى هاتاي، ولكنها لم تكن تستطيع بناء هذه الهيمنة وتقوم بهذا الاحتواء السريع لسوريا المعاصرة لولا حالة الفراغ السياسي الذي أعقب انهيار حكم الأسد، ولولا سيطرة الجماعات المسلحة السلفية وفي مقدمتها مجموعة الجولاني/الشرع (هيئة تحرير الشام) الفعلية على حلب وحماه ثم العاصمة انطلاقاً من إدلب، إضافة إلى عوامل مخابراتية ما تزال طي الكتمان وقد تكشف عنها الأيام.
لعل حالة التصحير السياسي بواسطة القمع الشديد التي خلفها نظام آل الأسد وانعدام أي معارضة ديموقراطية حقيقية سلمية كانت واحدة من أكثر ارتكابات هذا النظام قسوة بحق شعبه. حيث حرمه من أي بديل انتقالي آمن بعيداً عن البدائل السلفية الطائشة والهيمنة الأجنبية. كما إن الجماعات السلفية المسلحة التي سيطرت على دمشق سيطرة هشة، ومن دون قتال تقريباً، وبطريقة ما تزال تفاصيلها الحقيقية الدقيقة سرّاً في الدوائر المخابراتية، لم تخفِ هي الأخرى تواطؤها مع المشروع التركي. ويمكن أن نجد علامات كثيرة على هذا التواطؤ، منها مثلاً رفع العلم التركي على قلعة حلب حين سيطرت عليها ميليشيات الجولاني قبل انهيار حكم بشار الأسد. هذه الحادثة الرمزية ربما تذكرنا بما قام به محافظ قلعة حلب يوم 28 آب/أغسطس 1516 حين أمر السكّان بالتجمّع في ما كان يسمّى «الميدان الأزرق» لاستقبال جيش السلطان سليم الأوّل المنتصر على المماليك في معركة «مرج دابق»، ثم قام حرّاس القلعة بتسليم مفاتيحها إلى السلطان يوم ذاك.
إنّ ما سمّيناها «حالة التصحير السياسي» بواسطة القمع السلطوي، يبدو أنها الشيء الوحيد الذي ورثه حكّام الأمر الواقع السلفيّون من خصمهم الاستبدادي وبإبداع ندر مثيله حيث قرّروا حلّ الحزب الحاكم وأضافوا إليه حلّ أحزاب «الجبهة الوطنية». وهي هيئة صورية لا ثقل لها في الوضع السوري، كان قد شكّلها الحكم منذ عقود عدّة وظلّت صوريّة حتى يوم حلّها. الإبداع القمعي الجديد الذي أضافه الجولاني وأتباعه هو أنهم حظروا هذه الأحزاب، بل وحظروا حتى إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر وصادروا أصولها!
إنّ ما سمّيناها «حالة التصحير السياسي» بواسطة القمع السلطوي، يبدو أنها الشيء الوحيد الذي ورثه حكام الأمر الواقع السلفيون من خصمهم الاستبدادي وبإبداع ندر مثيله
معنى ذلك أن هذه الأحزاب، ومنها أحزاب سورية عريقة كالحزب الشيوعي السوري الذي تأسس بتاريخ 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 1924، ممنوعة قانوناً من أن تعيد تشكيل نفسها، أو تجدّد سياساتها وبرامجها وقيادتها حتى لو أرادت ذلك. يمكن أن نجد مثيلاً عراقياً مقلوباً لهذا الإجراء القمعي في القانون الذي أصدره حكم «البعث» العراقي في 31 آذار - مارس 1980 حين أصدر قراراً نصّ على «إعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية وبأثر رجعي»! بمعنى، حتى لو كان شخص ما قد انتمى قبل ثلاثين عاماً إلى هذا الحزب، ثم استقال أو طرد منه وانتمى إلى حزب آخر سيظلّ مشمولاً بحكم الإعدام هذا!
وفي سياق التبعيّة لتركيا، والذي بلغ درجة القتال الارتزاقي لمصلحتها، يُسجّل انغماس الميليشيات المقرّبة من تركيا والمسماة «الجيش الوطني السوري» في القتال ضد «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) ذات الغالبية الكردية والمدعومة من واشنطن بمجرد دخوله إلى الأراضي السورية، وما يزال القتال بين الطرفين مستمراً بضراوة حتى اليوم وبدعم كامل، وإلى درجة المشاركة في القتال من قبل الجيش التركي، في حين لم يردّ هذا الجيش «الوطني» السوري، ولا حليفته «هيئة تحرير الشام»، برصاصة واحدة على العدوان الصهيوني الشامل والمدمّر على مقدرات الجيش السوري، أو بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مقدرات الجيش السوري التي هي ملك الشعب، واحتلال جبل الشيخ وأجزاء أخرى من هضبة الجولان السورية الذي أعقب سيطرة هذه المليشيات على العاصمة بساعات.
رئيس مؤقت وانتقالي، ولكن...
لقد جاءت الزيارة التي قام بها أحمد الشرع بصفته رئيساً مُعيَّناً من قبل الجماعات السلفية المسلحة إلى أنقرة، والإعلان عن توقيع اتفاقية الدفاع المشترك والشراكة الإستراتيجية بين البلدين، وموافقة الجولاني على بناء قواعد عسكرية تركية عدة في وسط سوريا، وتولي تركيا تدريب الجيش الجديد وتجهيزه، لتؤشّر على دخول الوضع في سوريا مرحلة خطرة جديدة.
هذه المرحلة تؤذن ببدء عهد الهيمنة التركية الجيوسياسية والعسكرية الممولة قطرياً، والمتصاعدة بحذر وإصرار على هذه الدولة العربية المستقلة. وليس من المعروف حتى الآن المدى الذي ستبلغه هذه الهيمنة التركية، وهل ستعيد سوريا إلى عهد «ولاية شام شريف» العثمانية، أم أنها ستفتح الباب واسعاً على تطورات دراماتيكية لم يفكّر بها أحد بعد؟ وهل يمكن لرئيس مؤقت لمرحلة انتقالية لم ينتخبه سوى قادة الميليشيات التي يقودها كأحمد الشرع أن يُقدِم على عقد اتفاقيات سياسية ضخمة تصل إلى درجة «الدفاع المشترك» و«الشراكة الإستراتيجية» مع دولة أجنبية ذات ماضٍ استعماري مع سوريا قبل أقل من قرن ولها أطماعها المستمرة بأراضي سوريا؟
قبل وصوله إلى أنقرة بساعات، قام الشرع بزيارة قصيرة إلى الرياض، واجتمع خلالها بولي العهد محمد بن سلمان. لم يَرْشَح عن الزيارة شيء مهم بشكل رسمي وعلني. ولكن المرجح أن تكون الزيارة محاولة من الشرع لوضع ابن سلمان في صورة ما سيفعله الشرع في أنقرة إلى جانب محاولة الحصول على دعم وسيولة مالية من المملكة لدمشق. ويبدو أن ابن سلمان لم يستجب لطلبات الضيف ولم يعطه أهمية كبيرة. ذلك واضح حتى عبر إرساله نائب أمير الرياض الأمير محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز لاستقبال الرئيس الشرع.
هذا الأخير نفسه، اكتفى بعبارة غامضة لا تعني الكثير حول نتائج زيارته إلى المملكة بقوله «لقد لمستُ رغبة حقيقية لدى المملكة لدعم سوريا وبناء مستقبلها». فهل أصبحت المشاعر والإحساس بالرغبات هي البديل عن البيانات الرسمية لتقديم الدعم والمساعدات بين الدول، أم أن اللجوء إلى هذا النوع من التصريحات هو إقرار ضمني بفشل الزائر في تحقيق ما جاء من أجله، فأكمل سفره شمالاً نحو أنقرة ليعرض بضاعته على إردوغان؟ وما هي تلك البضاعة إن لم تكن سيادة سوريا واستقلالها؟
ما قد يدخل في باب المناكفات السياسية أكثر من كونه نقداً حقيقياً يؤخذ على محمل الجد، يثير البعض، ممّن يؤيّدون الحكم الجديد في دمشق، الشكوك في حقيقة أن سوريا كانت مستقلة. وهم يسجّلون أنّ الرئيس السابق بشار الأسد هو بادر إلى التفريط باستقلال سوريا وسيادتها حين طلب التدخّل الروسي والإيراني ومنح قاعدة عسكرية هي حميميم لروسيا.
إنَّ مشكلة هذا النقد (الرد فعلياً) هي أنه ينطوي على مضمون تبريري للهيمنة التركية التي لا توجد أي ضمانات على أنها لن تتدرج حتى تصل إلى مرحلة الاحتلال والضم مستقبلاً.
ورغم أنني رفضت باكراً التدخّل الروسي وغيره في الحالة السورية (مجلة «الآداب» البيروتية عدد 03/11/2015)، ولكنني لا أعتقد أن طلب حكومة ما المساعدة العسكرية من دولة أخرى لمواجهة تحدّ خطير يتهدّدها يعني تلقائياً التفريط الفعلي باستقلال البلاد. أمّا السماح لدولة أجنبية ببناء قواعد عسكرية، أو أن يتحوّل البلد كله إلى قاعدة عسكرية أجنبية كما هي الحال في قطر والبحرين، فهو أمر مختلف تماماً. وعموماً فحكّام دمشق الجدد، ليس من حقّهم أن يتّهموا النظام السابق بالتفريط بالاستقلال السوري في حين منحوا هم أيضاً قاعدة حميميم وجزءاً من ميناء طرطوس لروسيا وهم يحاولون الآن عقد صفقة معها بوساطة تركية للإبقاء على القاعدة مقابل المال أو طاعة لأوامر تركيا التي تريد إرضاء صديقتها روسيا!
الواقع والآفاق
إذا كانت أنقرة قد نجحت في بناء ركائز هيمنتها واحتواء الوضع السوري بهذه السرعة، فليس من المرجح أن تمضي عملية هضمها لفريستها بسهولة. فالوضع السوري حالياً شديد التعقيد، والوضع الاقتصادي والاجتماعي صعب، فالبلد على حافة الإفلاس إن لم يكن قد دخل هذه الحالة فعلاً لولا السيولة المالية المؤقتة التي قدّمها حاكم قطر. وفي المناسبة، ما تقوم به قطر من تسهيل هيمنة تركيا وسيطرتها على سوريا البلد العربي المؤسس للجامعة العربية وصاحبة الماضي التاريخي التليد سيكون مخزياً ومعيباً مهما كانت الأرباح التي ستجنيها قطر من الاستثمار السوري حتى وإن بدت الأمور تشي بخلاف ذلك.
إنّ هذا الواقع السوري المعقّد والصعب لا يمكن معالجته والتعامل معه بالأوامر والقرارات الفوقية من سلطة الأمر الواقع القمعية ولا بالمليارات القطرية أو الدبابات التركية بل بتكريس حالة انتقالية صحية تقوم على توسيع الحريات الفردية والعامة واعتماد الشفافية في التعامل مع الشعب الذي ضحى طويلاً وكثيراً ومنحه حرية العمل والتنظيم والدفاع عن استقلال بلد وسيادته وتحسين ظروفه الاقتصادية والاجتماعية.
إنّ الوصول إلى هذه الحالة الانتقالية لا يمكن أن يتم باعتماد الفوقيّة والتستّر على التمييز والاضطهاد الطائفي والعرقي وتسريح العمّال والموظفين بالجملة والمفرد وخصخصة ما تبقى من منشآت القطاع العام كالمطارات والموانئ وغيرها وتوزيعها بسعر التراب على المحاسيب من القطط السمان، وإنما عبر الأخذ بمبادئ العدالة الانتقالية لا العدالة الانتقامية كما جُربت في دول أخرى، ولعل أنضجها تجربة جنوب أفريقيا التي قادها القس ديزموند توتو عبر «لجنة الحقيقة والمصالحة».
إنّ عبارات من قبيل المؤتمر الوطني التأسيسي واللجنة الدستورية وهيئة الحكم الجامعة والإعلان الدستوري، ستبقى حبراً على ورق، ولن تخرج عن كونها محاولة احتيال وسرقة لآمال السوريين في مستقبل زاهر ووطن مستقل وذي سيادة إنْ هي تحولت إلى عمليات فوقية من دون مشاركة شعبية ومن الفئات الكادحة خصوصاً ذات المصلحة الحقيقية في قيام دولة مؤسسات ديموقراطية ومساواتية.
أمّا عن آفاق هيمنة تركيا على سوريا الجديدة، فوفقاً لأرجح الحسابات والتحليلات لن تكون كما يشتهي الحكم التركي ومموّله القطري؛ فلا ماضي العلاقة بين السوريين والأتراك قديماً - خلال العهد العثماني الذي قررت سلطات الأمر الواقع بدمشق عدم اعتباره احتلالاً - ولا حاضر الشعب السوري الحالي، يوحيان بأن هذه الهيمنة ستكون سهلة وسلسلة. وهي كلما تمادى المهيمنون في إجراءاتهم ستزداد صعوبة وتشنجاً وسينهض لمقاومتها المزيد من السوريين والسوريات.
وعلى هذا، سيكون من الخير للقيادة التركية وممولوها القطري ولأصدقائها الجدد الذين أوصلتهم إلى قصر الشعب بدمشق أن ينأى الجميع عن عقلية الهيمنة وأوهام الضم والإلحاق ويُترك الشعب السوري ليصنع تاريخه بسواعد بنيه وبناته ويقرر مصيره بنفسه ويغادر عهد القمع والاستبداد الأسدي نحو الحرية والمساواة لا نحو التبعية والهيمنة.
* كاتب عراقي